إهداء

.إلى من زرع الحب والحلم بين جفوني

أجمل البحار

.ذلك الذي لم يزره أحد بعد

أجمل الأطفال

.ذلك الذي لم يكبر بعد

أجمل أيامنا

.تلك التي لم نعشها بعد

أجمل الكلمات

.تلك التي لم أقلها بعد

05 August 2007

إلى الحلم الذي مات دون الحناجر


ملحوظة: هذه القصة التي أسردها وقعت بالفعل


قفزت أحلام من الفراش الدافئ عند سماعها جرس المنبه. أطفأته وأنصتت لعزف الصمت في هذه الساعة المبكرة. كانت تحب هذا الصمت لأنه يليه مباشرة دندنة ماما في المطبخ تعد لها الإفطار. وبعد أن غسلت وجهها المستدير المفروش بالنمش ومشطت شعرها الأحمر، دخلت المطبخ إلى ماما ترقص على شفتيها ابتسامة طِعمة.

"ماما أنا عايزة أكبر بسرعة"

ضحكت ماما ضحكة رنت في أركان روحها وسألتها بعينين تتدفقان حبًا، وقلب ينتشي بالفرحة

"وعايزة تكبري بسرعة ليه يا أحلام؟"

"عشان أجهز الفطار الصبح لبنتي قبل ما تروح المدرسة"

زغرد قلب ماما كأنما رأت ابنتها عروسًا وأمًا، ثم باركت النور الذي يضيء حياتها بمسحة ناعمة على ظهر ابنتها.

"بكرة تكبري يا أحلام وتبقي أحلى ماما"

عربدت السعادة في قسمات الوجه الطفولي كأنما اقتنصت لتوها أمنية من فم جني المصباح السحري.

***

على كتفها، حملت أحلام حقيبتها، وفي قلبها حملت آمالها. وفي إحدى يديها شنطة القمامة الصغيرة لتضعها في الصندوق الأخضر القريب من البيت. هبطت السلم تدندن أغنية ماما. كان رصيف الشارع مليئًا بالصناديق الخضر الضخمة والمكتظة بأطنان من الذباب بالإضافة إلى الرائحة المنفرة والأكياس التي فاضت من كل جانب على أرض الرصيف والشارع حتى تناثرت هنا وهناك.

نظرت أحلام بتردد إلى مريلة المدرسة النظيفة والحذاء الأنيق اللامع. قررت أن تسرع بإلقاء القمامة وتجري بعيدًا لتعود تحلم. أسرعت خطوتها حتى خاضت غمار الأكياس والقطط الضالة المشعثة. عادت تدندن أغنية ماما. و ... هوب! انشقت الأرض! ابتلعت الصوت. وأحلام.

لم يتوقف إنسان. لم يلحظ أحد البالوعة المفتوحة المختفية وسط أكوام القذارة، تبتلع النور والأغاني والأحلام. المارة تابعوا سيرهم. الباعة المتجولون واصلوا صياحهم: "روبابيكيا". "كيلو البصل بنص جنيه"

"أغلى م الأوطة مفيش يا بلد"

"أغلى م الأوطة مفيش"

02 August 2007

ملعونة بالهجر


لست أدري لماذا أريد أن أسرد هذه الحادثة القديمة. ربما لأنها خلفت ورائها جرحًا لن يندمل. ولست أدري كذلك لماذا تلح على ذهني هذه الأيام بالذات. ربما لأني توقفت عن النظر في المرآه، فصار العقل الباطن يجبرني على رؤية أشياء (بالعافية). ماذا في الحياة لا يحدث (بالعافية وغصبن عن نن عنيك)؟ ولكني أعتقد أن هذه الحادثة وغيرها من الحوادث المشابهة المرتبطة بالثقة من عدمها هي السبب فيما استحلت إليه. لا أستطيع أن أثق في الناس بسهولة.

مس جميلة ميلاد. مدرسة اللغة الإنجليزية. كانت أقرب المدرسات في سنة أولى ثانوي إلى قلبي، وهي كانت تعشقني. ولست أبالغ حين أقول إنها كانت أحد الأسباب التي جعلت فتيات كثيرات يحاولن إبعادي عن شلتهن. بالنسبة لي، كانت مس جميلة ميلاد السبب الوحيد الذي يجلعني أصحو من نومي وأذهب إلى مدرسة أكرهها وأحضر في الفصل مع مجموعة من الفتيات البلطجيات (لن أنسى مروة جزارين - كنا نسميها هكذا لأن والدها جزار - حين هددتني ذات مرة بساطور اللحمة). كانت مس جميلة ملاكًا. حتى جاء اليوم الذي كنت أخشاه. لا أعلم من الذي رماني بهذه اللعنة، لعنة الهجر المتواصل، على الرغم من أن لدي صديقتين مقربتين تعديتا المهلة التي يمنحني الزمن إياها قبل أن يسلبني من تعلقت بهم، وهما لمياء وسحر، فصداقتي بهما تعدت 15 عامًا. رقم قياسي بالمقارنة بالعلاقات الإنسانية الأخرى في حياتي

المهم، نعود لموضوعنا. معظم الفتيات في مدرستي الثانوية القديمة - كما هو الحال في معظم المدارس - بلا أدب ولا ذوق ولا أخلاق. وحدث ذات مرة أن طلبت مس جميلة من إحدى الفتيات أن تكف عن الثرثرة في أثناء شرح الدرس، ولكن الفتاة لم تتوقف عن الثرثرة، فصرخت مس جميلة في وجهها منفعلة كي تتوقف عن الكلام. لسوء الحظ، أقسم والله شهيد، كانت مس جميلة تحمل في يدها مسطرة تشرح بها ما سجلته على السبورة. وفي أثناء انفعالها، طارت المسطرة من يدها، ولكنها لم تصب الفتاة بالمرة، بل طارت واصطدمت بالنافذة ورائها، فأنا أجلس في المقعد الذي يجوارها مباشرةً وكنت أرى كل شيء بوضوح. وأقسم أن هذا ما حدث. ولكننا وجدنا الفتاة تصرخ وتقول: "آه يا عيني آه يا عيني!" طبعًا حيلة قديمة، ولكنها دائمًا تفلح.. للأسف.

وفُتح التحقيق مع مس جميلة.

وجاء محقق من الوزارة كي يحقق مع مس جميلة. وكان جزء من التحقيق أن يتحدث مع الشهود، وهم نحن الطلبة. فدخل وتحدث معنا وطمأننا ألا شيء سيحدث لمس جميلة، ولكنه يريد أن يعرف ما الذي حدث بالضبط. قامت الصديقة المقربة للفتاة التي اتهمت مس جميلة زورًا. وبالطبع اتهمتها زورًا هي الأخرى. ثم لما لم يجد المحقق شخصًا آخر يتحدث عن الحادثة، سألنا إن كان ثمة أحد يريد أن يتحدث معه على انفراد. فرفعت يدي أنا والصديقة المقربة للفتاة. لم أكن لأتخلى عن مس جميلة حتى لو خسرت الصداقات القليلة التي عقدتها في هذا الفصل. لن أتحدث عن الشرف والأمانة وشهادة الحق هنا. كل ما كان يهمني في هذا الموقف أن أبرئ مس جميلة بغض النظر عما يمكن أن يحدث لها أو لي أو لأي شخص. خرجت الصديقة المقربة أولاً مع المحقق ليتحدثا أمام الفصل. وتُركت وحدي مع بقية زميلاتي.. نظرات عيونهن نيران. وسمعت الفتاة تقول: "أنا هاقضي على مس جميلة ديه وأخليها تسيب المدرسة، عشان تحرم تبقى تزعقلي تاني". ثم نظرت لي وتابعت: "وأما أشوف مين بقى يقدر يساعدها". لم يهزني كلامها. كنت على استعداد لتحدي أي شخص من أجل إنسانة أحبها وأحترمها.

وجاء دوري. دخل المحقق وطلبني. خرجت وفوجئت بمس جميلة تقف أمام الفصل هي الأخرى. وبعد أن دخلت الصديقة المقربة "للضحية المزعومة"، ابتعد بي المحقق عن مس جميلة وطلب مني أن أحكي له كل شيء دون خوف، تحدثت عن الحقيقة. أتعتقدون أنني فتانة؟ ربما. ولكن كي أنقذ شخصًا أحترمه، كنت على استعداد للتضحية بأي شيء. وتحدثت عن الحقيقة، وذكرت له أن مس جميلة مظلومة وأن الفصل غاية في السلبية والجميع يعرف الحقيقة. تحدثت وتحدثت وكل ذلك ومس جميلة تقف من بعيد تراقبنا. كانت على ثقة - بلا شك - أنني في صفها. أنني معها. أساندها. ولكن القدر كان قد رسم بالفعل نهاية علاقتي بمُدرستي العزيزة.

بعد مرور ثلاثة أيام، ظهرت مس جميلة بالفصل ثانية بعد غياب. كنت في قمة سعادتي. ولكنها كانت قاطبة الوجه! نظرت إليها وحاولت أن أجعلها تنظر إلي كما اعتادت أن تفعل دائمًا. ما كانت تهتم باحترام أحد سواي. ما كانت تحظى بانتباه أحد الكامل سواي. رفعت يدي كي أجيب عن سؤال، ولكنها تجاهلتني كليةً. مرة. اثنتان. ثلاثة. أربعة. وأخيرًا، لما رأتني مصممة، أشاحت بيدها في غضب وقالت في لهجة حادة: "اتفضلي سمعينا". سقطت الإجابة من فمي، وسقط معها قلبي إلى سابع أرض. مس جميلة! أنا مروة! ألا تريني؟! صرخت ثانية: "متنطقي ولا اتخرستي دلوقت". رأيت نظرات الفتيات المُسلطة عليّ. ما هذا؟ أهي مزحة؟ مقلب؟ ماذا يجري؟

تكررت المأساة يومين آخرين. وفي اليوم الثالث، لجأت إلى صديقتي المقربة (سحر)، وكنت معتادة أن أحكي لها عن كل شيء، وطلبت منها أن تذهب تحدث مس جميلة لتعرف منها سبب معاملتها الجافية تجاهي. وبالفعل، ذهبت سحر لتتحدث مع مس جميلة في فترة البريك أو الفسحة. وقبل انتهاء البريك بخمس دقائق خرجت إليّ سحر من غرفة المدرسين وقالت: "مصيبة!" سألتها عما حدث.

كانت الطامة الكبرى عندما عرفت بما وقع.

المحضر الذي أعده محقق الوزارة ذكر فيه أن ثمة فتاتين فقط تتهمان مس جميلة بالاعتداء على الطالبة زميلتهما بالضرب. وذكر الاسمين. اسمي واسم الصديقة المقربة للفتاة

ماذا أقول؟ هرعت إلى مس جميلة أشرح لها الحقيقة، ولكنها لم تنصت لي، وقالت: "هل أصدقك وأكذب محقق الوزارة؟" مس جميلة يجب أن تصدقيني، لأني قلت الحقيقة. قبل أن أشهد بالحق أنا قلت الحقيقة قبل كل شيء. يا رب! أهذا جزاء من يقول الحقيقة؟ مس جميلة! اسمعيني! ولكنها سدت أذنيها ورحلت. ومن يومها لم أرها في المدرسة

هذا مثال على حوادث كثيرة مماثلة وقعت في حياتي نزعت عني الثقة في أي مخلوق. وصرت مع مرور الوقت أعتبر علاقتي بالناس مؤقتة. ففي يوم من الأيام، بسبب لعنة ما، سيفارقونني. حتمًا سيفارقونني.
لهذا، أعتذر لهم، إذا مسهم شيء من لعنتي. وأعتذر إن تجنبت من يحاولون أن يدخلوا حياتي، لأنني صرت أخشى التعلق بالناس كي لا يجرحوني بالهجر والفراق. وفضلت أن أتعايش مع لعنتي